23Aug
ماقال وائل حلاق في الحداثة لم يقله مالك في الخمر! فهل هو نتاج حداثي كذلك؟

تعليقا على حوار أ. حلاق: نقاط حول الحداثة ونقد الحداثة عند وائل حلاق


استمعتُ مُؤخراً لحوار مطول (٤ ساعات) مع البرفيسور وائل حلاق. بثته ثمانية ( مؤسسة إعلامية تبثُّ من الرياض – السعودية).

هذا ليس مقالا أكاديميًا بقدر ما هو تعليق سريع ظهر في شكل منشور على صفحة انستغرام  لذلك تجدر قراءته في ذلك الإطار.

 

حين يذكر اسم وائل حلاق يذكر تلقائيا الحداثة ونقد الحداثة. يجادل وائل حلاق أن الحداثة كارثية، إنها شرُّ مطلق، وباء، طاعون، الحداثة دمار للإنسان، “يجب أن نخرج من إطار الحداثة” قبل أن نفنى كبشر! وبطبيعة الحال يقول حلّاق في الحداثة ما لم يقل مالك في الخمر. لكنَّ مالكا ً كان يقولُ قوله من خارج منظومة الخمر ذاتها، إنما وائل حلاق يقول قوله من داخل منظومة الحداثة. وائل حلّاق هو بحد ذاته نتاجٌ حداثي محض، والنقد الذي يوجهه للحداثة نتقاطع معه فيه، لكنّنا أيضا نفرق مابين حداثات مختلفة. نفرق بين روح الحداثة وبين التجسيد الغربي للحداثة (على لغة طه عبد الرحمن) والذي هو وبالمناسبة أثّر في أعمال وائل حلاق، لكنه لم يلقَ نفس الزخم الذي يلقاهُ حلاق، ببساطة لأن طه عبد الرحمن لا يدرّس في جامعة كولومبيا الأمريكية، ولا ينشرُ أعماله بالانجليزية وهذا يعطي مصداقا للفكرة التي قلنا إن حلّاق نتاجٌ حداثي كولونيالي لُغوي “جُندبي” أيضا. إذ لولا جامعة كولومبيا الأمريكية المرموقة، واللغة الانجليزية التي ينشر بها حلّاق لما أعطيَ له مالم يمنح للمفكر المغربي طه عبد الرحمن ( الذي عمل على المشروع من قبل حلاق ونشر فيه الكثير) ولكن تلك نقطة أخرى قد نتحدث عنها في وقتها

بطبيعة الحال عمل طه عبد الرحمن ( مفكر مغربي مهتم بالفلسفة والمنطق واللسانيات.. ينشر باللغتين : العربية والفرنسية) على تفكيك مفهوم الحداثة وعلاقتها بالماضي. فإذا كانت الحداثة تعني “الإبداع الذي هو نقيض الجمود والاتباع، والعقل الذي هو نقيض النقل” كما يقول أحدهم، فإن طه عبد الرحمن يسائل التعريف من خلال تفكيك مفهوم الإبداع والغاية منه وعلاقته أيضا بالماضي من جهة وعلاقة “العقل الحداثي” بالأخلاق من جهة أخرى. هذا مابنى على شيء منه وائل حلاق في كتاباته.. ولكن في هذا الحوار الذي أمامنا لم يتم الغوص كثيرا في هذه التفصيلات التي قد تكون به تفاصيل تقنية كثيرة – حتى لا أقول أكاديمية، وقد لا تثير ذلك فضول المستمع العام.. على أية حال، يواصل حلاّق نفذه اللاذع للحداثة ولكل ماهو حداثي. مبيّنا أن الفروق الجوهرية في نظره بين ” الشريعة ” والحداثة كثيرة جدا. فالشريعة في نظره تهتم بالداخل ( الصوفية) بينما الحداثة تهتم بالخارج. الإسلام/الشريعة ليستا منظومات قانونية، إنها منظومة “أخلاقية” وهذا فرق جوهري . كمثال بسيط، توهمنا الحداثة اليوم بأن الشاب أو الفتاة المثالية هو ذلك الذي يعتني بجسمه ليبني عضلاتْ جميلة، ثم يرتدي ملابساً رائعة.. وظهورا يقتضي إنفاق الكثير من المال، ولكنه خاو من الداخل..

مهرزوز، فارغ، لا يتعامل ولا يهتم بالاسئلة الجوهرية الكبيرى. ثم ما الهدف من كل هذا؟ الصحة؟ ليس كذلك بدليل أن الذي يبني كل هذا ينتهي به المطاف – غالباً- في الاستعراض في ملهى ليلي يقتضي السهر والتدخين وربما تناول الكحوليات وهي كلها أمور سيئة غير صحية مطلقا! مايعني أن الاهتمام بالبدن هو جزء من عملية استهلاكية لا علاقة لها بالصحة بالضرورة. بينما الاعتناء بالجسم في الإسلام هو عبادة. لأنه ليس ملك لك. أنت تتصرف فيه بمقضى المالك والواهب الحقيقي . الذي هو الله في هذه الحالة. لذلك أنت لا تقوم بما تقوم به كجزء من علمية استهلاكية ما، بقدر ما تقوم به كجزء من رسالة وفلسفة دينية متكاملة…() فالإسلام – في نظر حلاق – يقوم على نطاقان مركزيان هما : “الشريعة” والتصوف( الاهتمام بالإنسان من الداخل (الروح)، بينما النطاقات المركزيان في الحداثة هما: الدولة و الرأسمالية! وهذا التحالف بين الاثنين أنتجَ لنا وفرة من المال والثراء ولكن أيضا كثيرا من البؤس والقلق والمشاكل النفسية والجسدية الأخرى. (أثرياء كثر لكنهم بؤساء جدا)!

وإذا كانت الحداثة تهتم بالعلم، فإن وائل حلاق ـ وكما طه عبد الرحمن من قبله – يتساءل عن الغاية من العلم في الحداثة؟ نعم، تهتم الحداثة بالعلم، ولكن لأجل ماذا؟ الغاية من العلم هو السيطرة والربح، بينما الغاية من المعرفة في الإسلام هي محاولة التعرف على الخالق أكثر وتوسيع المدارك لتحقيق مراد الله.( خانت حلّاق العبارة هنا فقال :”محاولة فهم كيف يشتغل عقل الله”. وطبعا هذه زلةُ لسان ( نحن كمهتمين بعلم اللاهوت لا يمكننا تجاوز هذه الجملة، لكن نغفر لحلاق زلته هذه طالما ينتقد الحداثة:) فهو في عبادة دائمة في نظرنا طالما ينتقد الحداثة الغربية 😊.

وقد يكون البرفيسور وائل حلاق محقا في هذا، فالغائية اليوم هي التربح والسيطرة. فحتى حين نكتشف كوكبا جديدا نبحث عن العيش فيه، لماذا؟ لأننا في طريقنا إلى تدمير هذا الكوكب لذلك سيذهب الأثرياء إلى كوكب آخر ويدمرونه كما دمروا الأرض هكذا يتصور حلاق… وأعتقد أن نقطته قوية هنا. على الأقل بالنسبة لي، فيوميا أقابل طلابا جامعيين وأساتذة ، ورجال أعمال ، ودكاترة، وباحثون جادون… ولكن الغالبية من كل هؤلاء تصب في نفس الهدف الذي رسمه التجسيد الغربي للحداثة. وهو العمل الجاد من أجل الكثير المال، ولماذا الكثير من المال؟ من أجل الحرية، الحرية من وإلى ماذا؟ من أجل المتعة (Just for fun)!!

خلقت الحداثة إنساناً لا يعرف للحرية معنى. اللهم المعنى الذي لقنته له الحداثة وهو :الحرية الاقتصادية أو “السياسية” الشكلية! ( طبعا هنا هو يشير إلى صنم مهم من أصنام الليبرالية الحديثة وهوصنم “الفردانية”)Individualism  ولو أن تعليقه هذا أثار انتباهي. إذ أننا في الإسلام نجد الصوفية تعتني بما يسمونه الحرية بالإنتصار على النفس. وهي الحرية من الحاجة إلى الأشياء، لا الحرية في القدرة على استعمالها أو القدرة على شرائها .

كما نجد عند أبو العتاهية (747-826)

طَلَبتُ المُستَقَرَّ بِكُلِّ أَرضٍ // فَلَم أَرَ لي بِأَرضٍ مُستَقَرّا

أَطَعتُ مَطامِعي فَاِستَعبَدَتني // وَلَو أَنّي قَنِعتُ لَكُنتُ حُرّا

أي أن التحرر الحقيقي هو التحرر من الحاجة إلى الشيء، لا القدرة على امتلاكه كما تصور الرأسمالية. أو كما قال ابن عطاء الله (1260-1309) :

أنت حر مما أنت عنه آيس (مستغن عنه غير محتاج له) وعبدٌ لما أنت له طامع“. يمكن قراء المزيد عن هذه النقطة تحديدا في تدوينتنا السابقة

عن الملامية: المتعة واللذة وهوى النفس..

لكن هذه ليستْ هي أسوأ سيئات الحداثة في نظر أ. وائل حلاق. فالحداثة قتلتْ أي نماذج أخرى للحرية غير النموذج الذي تقدمه. فبالتأكيد هناك نماذج واستخدامات بشرية للحرية من قبل، ولكننا لا نعرف عنها شيئا. لماذا؟ لأن الحداثة قتلتها!! يجادل وائل حلاق أن التاريخ الاسلامي مليء بالتصالح مع الآخر ؛ الآخر المختلف دينيا . الأقليات في التاريخ الإسلامي كانت تعيش ظروفا أحيانا أفضل من ظروف الأغلبية. قدم بعض الأمثلة على ذلك. ولكن في كتاباته الأخرى فسر هذا أكثر مدعيا أن “دولة الحداثة/المواطنة” الغربية الحاليةأقل تصالحاً مع الآخر “(الأقليات) من نظيرتها الإسلامية تاريخيا، إلى الدرجة التي يدعي فيها أنه :”يفضل أن يعيش ذميّا في عصر الدولة الأموية أو العباسية على أن يعيش أقلية في كندا أو أمريكا”.!! طبعا هذا تصريح سابق له في مقابلة أخرى. لكن ما يمكن أن يؤخذ على وائل حلاق رؤيته الرومانسية للتجسيد الإسلامي للحكم ( الدولة) في الإسلام. فكرة أن الدولة الاسلامية هي منظومة متماسكة غير قابلة للتجزئة( هذا الجزء لم يتعرض له الحوار بما يكفي أو ينبغي ، لأنه هو النقطة التي يؤتى منها حلّاق). إذ يرى حلاق أن الدولة الإسلامية تقوم على منظومة غير قابلة للتجزئة.. ولا للتمازج مع الدولة الحديثة، وهذا بحد ذاته فكر يتقاطع والتفكير السلفي البسيط حول مفهوم دولة الإسلام، حتى لا أقول إنه نفس التصور لدى “الملحدين السلفيين ” أيضا. (هناك عمل جميل لأبو يعرب المرزوقي قد يكون مناسبا ، وهو مفكر وكاتب وهناك من يعتبروه فيلسوفا تونسيا. يهتم بالفلسفلة والفكر واللغة) ..

ولكن نقطة حلاق هذه تتعرض لكثير من النقد.. شخصيا غير مقتنع بها. ولكن دعك من وجهة نظري أنا.. فلسنا كطلاب علم وحدنا من ينتقد هذه الفكرة التي نراها بسيطة وغير مدركة لخطورتها حتى وهي تحمل نوايا حسنة. في نقده يرى أبو يعرب المرزوقي( فيلسوف تونسي يكتب بالعربية والفرنسية) أن حلاق لم يوفق في هذه النقطة. فلا توجد دولة بلا أخلاق. ولكن يمكن أن تتغلب المصالح على الأخلاق حين التعارض. ولكن في الواقع لا توجد دولة قائمة بلا أخلاق.! أكثر من ذلك وصف أبو يعرب المرزوقي نظرية حلاق بأنها “ضرب من الخرافة الفلسفية” التي لا تستجيب لشروط القول الفلسفي المستند إلى المنطق. ليس المرزوقي وحده من أنكر طرح حلاق هذا، ولكن مفكرون كثر مثل الشنقيطي وغيره تعاملوا معها بنوع من الخيبة والاستهجان. يجادل حلاق أن منتقديه لا يدركون “مفهوم الدولة الحديثة”، ولكن منتقدي حلاق يجادلون أيضا أنه ينطلق في أطروحته من مفاهيم هو من اخترعها وليستْ واقعية بالضرورة. أما في نظرته للتاريخ الإسلامي، فأجمل ما قرأت فيها هو نقد شاركه معي أحد الأصدقاء كتبه أحد زملائه في نفس جامعة كولومبيا الأمريكية ( نفس الجامعة التي يدرس بها حلاق)، وهو “أن حلاق يتحدث عن ماضٍ لم يقع أصلا”! وأنا أضيف على هذا – حين يتحدث عن استحالة قيام دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية حداثية – أضيف أنه يتحدث عن حاضر مُتخيّل، لم يقع أيضا!. هذا فضلا عن تصور غير مدرك لحقيقة الإسلام كما يراها المؤمنونه به. وهي حقيقة قائمة على مرونته وقابليته للاستمرار بغية تحقيق مقاصده العليا. والتي يفهمها حلاق فهماً خاصا به. ( أعني المقاصد).

 

الخلاصة :

حلاق عالم كبير، والحوار معه شيق بالضرورة. ولكن هذه نقاط سريعة كتبتها على عجل تعليقا على مقابلته الأخيرة. ولو أني كنت أتمنى لو تم استغلال حلاق والذهاب به إلى حيث لا يريد أن يلعب أو يريد أن يجادل حقّا. أي إلى الجدليات النقدية المتعلقة بعمله. وكونه هو أيضا نتاجٌ حداثي محض. وحتى في نقده للاستشراق فهو يكرس مفهوما جديدا للاستشراق عبر لصق مفاهيمه المسبقة بالآخر. الآخر الذي يريد – بحسن نية- أن ينقذه لكنه استشراقي حتى في عملية الإنقاذ عبر نقد الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية. ( شاختْ مثلا) أنصح بالقراءة لحلاق. ولمنتقديه أيضا. كما أعتقد أن الاستماع لهذا الحوار سيكون مفيدا على أية حال.

 

والسلام.

 

© Copyright 2014, All Rights Reserved