8May
السعادة، اللذة، هوى النفس، المتعة

الملامية: حديث حول اللذة، المتعة، السعادة، وهوى النفس

الملامية: حديث حول اللذة، المتعة، السعادة، وهوى النفس

ربما تتذكر البيت الذي يشير لإحدى أمثلة المقصور والممدود في اللغة العربية واختلاف المعاني في ذلك:

” الهوى الحُبُّ والهواء الخلاءُ / والصفا الصخرُ والصفاء النقاءُ!” ولكنْ الهوى الذي أشير إليه هنا والذي هو موضوع هذا المنشور ربما قد يكون مختلفا قليلا.

فعلى هامش حديث شيّق مع أحدهم وجدتني أفكر في ما أشاركه معك الآن.

ويمكنك عنونته بحديث حول الهوى( هوى النفس) الرغبة، اللذة ، السعادة ..أو كما شئت. ولكن قبل ذلك ما رأيك في مشاهدة هذا الفيديو القصير ( غير بعيد عن الموضوع)


هل تتذكر حديثنا السابق عن اللذة والسعادة؟  وكيف أن ابن باجة (1085-1138) يصر على أن اللذة لا ترادف السعادة مطلقا ولا يمكنها أن توصل إليها ؟ إن كنت لا تتذكر فلا بأس قد تجد هنا ما يذكرك بذلك:)

كما أشرنا في السابق؛ إذا كان الرازي (1150-1210)يقسَّم مراتب اللذة إلى عدة مراتب واضعا أعلاها “اللذة العقلية” والتي عرفها بإنها “لذة إدراك حقيقة الأشياء“، فإن ابن باجة لم يكن بعيدا من هذا حين وصف أن اللذة الحقيقةهي “لذة المعرفة”. مقللا من شأن أي لذة أخرى مهما كانتْ مادامت مرتبطةً بعارض( أي متغيّر). ومادامت مرتبطة بمتغيرٍ فإنها ستزول حتما بزوال ذلك المتغيّرالعارض… لذلك لا يمكنها وهبُ السعادة إذ مقصد السعادة ينبغي أن يكون ثابتا بينما اللذة مردها عارضٌ زائلٌ لا محالة.

جادل ابن باجة وسخر كثيرا ( من عالمنا الاستهلاكيِ هذا، الذي يربطُ بين السعادة والمتعة ربطاً غريبا) حين وضع مفهومه المتعلق بالسعادة أنها حتماً متعلقة بالمعرفة والعلم ،(بلغتنا اليوم غير مرتبطةٍ بمحسوس استهلاكي مادي أيَّ يكن) ولايمكن تحقيقها بغير ذلك. وهذا يتماشى وما رآه الرازي الذي قسم مراتب اللذة إلى ثلاث: واضعا أدناها مرتبة هي مرتبة اللذة الحسية ( لذة شهوتيْ الأكل والجنس)، ويليها في الترتيبِ “اللذة الخيالية” (ملذات الشهرة ولفت الانتباه وحب السيطرة والجاهْ../لذة السلطة)، أما أعْلى المراتب إطلاقا فهي اللذة القصوى، أي “لذة العقل”/المعرفة وإدراك كنه وحقيقة الأشياء..وعلى الرغم من هذا التقسييم نجد الرازي في مكانِ آخر يتسبعد إمكانية الوصول إلى “المعرفة اليقينية” باعتبارها أمرا شبه مستحيل. لما يقتضيه ذلك من العلم الكامل لإدراك حقيقة الأشياء والذي لا يتوفر للإنسان…()

 

ما أشار إليه كل من ابن باجة والرازي قديما، أثبتتهُ دراسة عملتها جامعة هارفارد والتي تعتبر واحدة من أطول الدراسات وأكثرها جمعا للمعلومات قبل تحليلها على فترة طويلة حواليْ 81 سنة!؛ توصلتْ الدراسة إلى أن ” العلاقات الصحية” أكثر تأثيرا من الحصول على المال، الصحة البدنية والشهرة في مؤشر السعادة. أي بعارة أخرى، علاقاتك الاجتماعية الصحية تجعلك سعيدا أكثر من المال، والصحة البدنية والشهرة.

وهذا يتقاطع وما أشار إليه ابن باجة والرازي تقريبا من حيثُ أن السعادة الحقيقية لاترتبط حتما بأمر مادّي ( بما فيها مستويات اللذتين: لذة الشهوتين: الجنس والأكل، واللذة الخيالية” الشهرة والجاه والسلطة”).

 

في كتابه “الانتحار Le Suicide”  أشار إميل دوركايم (1858 – 1917) إلى نوع من الانتحار يرتبط بحالة أسماها ” الانتحار الشاذ” وهي حالة يرجعها إلى عدم الشعور بالانتماء إلى المجتمع المحيط بالسقيم.  ولايمكن فصل هذا عن تفحل أحد أصنام الحداثة اليوم وهو  صنم “الفردانية” بحيث الفرد ولا شيء غير الفرد. (أنا ولا شيء إلا أنا). هذا التفحل ينمو في بيئة استهلاكية ذات مرجعية تربط بين المتعة كسبيل إلى السعادة- وحينها يجد الفرد نفسه منعزلا عن محيطه الاجتماعي، موغلا في الأنا/أو الأنانية- والرغبة في تحقيق كل ما يرغب فيه ( هوى النفس) بدون حدود ولا ضوابط. وهي محاولة فاشلة لا محالة، إذ وكما أوضحتُ أعلاه، لا يمكن وضع نهاية لرغبات وجموح النفس… ويكون الأمر أكثر سوءً مع غياب أي مرجعية أو أطر اجتماعية أو أخلاقية تضبط تلك الرغبات أو توجهها.

 

ولعل أصدقاءنا المتصوفة فطِنوا لهذا المعنى. فنجد في تقاليدهم الصوفية هناك حرص دائمٌ على كبح جماح تلك الرغبة، وهذا ما يسمونه بـ“مجاهدة النفس” أو “الجهاد الأكبر”، والعدو الأول بالنسبة لهم هو “الرغبة” :

 

“ليسَ الشجاعُ الذي يحمي فريسته
يومَ النِّزالِ ونارُ الحربِ تشتَعِلُ

‏لٰكِنَّ منْ غَضَّ طرفًا، أو ثَنىٰ بصَرًا
‏عن الحرامِ.. فذاكَ الفارسُ البطلُ”!. 

وفي نفس المعنى يمكننا استعارة بيتُ الأعرابية الشهير:

“وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا/ لقلبك يوما أتعبتك المناظرُ
رأيت الذي لا كله أنت قادر/ عليه ولا عن بعضه أنت صابر”.

وهذا التحدي نجده في حديثهم عن الغضب، بصفته نوعاً من الهوى ورغبات النفس. لذلك يروون حديثا متفقاً عليه يقول  ” ليس الشديد بالصُّرَعة،(القوة البدنية)، إنما الشديد(القوي) الذي يملك نفسه عند الغضب” ( أي كبح جماح نفسه عند لحظات الغضب)!.

 

ثم لماذا لا نلومُ أنفسها أحياناً؟ ونسائلها ؟. في الحقيقة، كانت هناك طائفة صوفية لا تقوم بطقوس غير لوم النّفس وهضمها. ولذلك سُمُّوا بالملامتية أو “المَلامية” على لغة ابن عربي (1165-1240). وأصل الكلمة تعني  الذين يلومون أنفسهم. وهذا يتماشى مع مقولة الحاج ولد فحفُ (1913-2018) حيث قال:” لا تصلح هذه الدينا إلاّ لخاملٍ مجهول”.!

ظهرتْ الملامية يعرفون أيضا بالملامتية مع حمدون القصار(القرن الـ9 الميلادي)، وهي فرقة مثيرة جدا، تركز على نقطة اتهام النفس وترويضها ولومها ومحاولة كبح جماحها. و على عكس باقي الفرق الصوفية، يهتم “الملامييون” أكثر ليس في الإخلاص ولكنْ في الرياء، وليس في فضائل النفس ولكنْ في عيوبها وآفاتها ومشاكلها ومخاطر إطلاق العنان لها، وليس في تهذيب النفس وتقديرها بقدر ما يهتمون بتحقيرها والحدْ من رغباتها وكبح جماح مطامعها..

 

ثم إني لا أريد الدخول في تفاصيل أنواع النفس ( الأمارة،المُلهمة، اللوامة، المطمئنة) ولا مراتبها، فذاك حديث طويل وقد كتب فيه  الحكيم الترمذي كتابا طريفاً من 50 صفحة يُنصح بالرجوع إليها.

 

إن فكرتي كلها منصبةٌ على موضوع “الهوى” أو اتباع الهوى. والهرولة خلف الرغبات. فعلى المستوى الشخصي، أدركتُ أن نشوة أي رغبة فكرتُ فيها في حياتي، تتلاشى فور تحقيقي لتلك الرغبة. وما تلبث نشوة تلك الرغبة أن تتلاشى هي الأخرى فور تحقيقها.. وهكذا في دوامة لا متناهية من الرغبات التي تدعو إلى رغبات أخرى. تماما مثل ما قال البصيري: “

والنفس كالطفل إن تُرضعه شبّ على حبّ الرضاعِ وإن تفطمهُ ينفطَمِ!

أو ابن الفارض:

هي النفس ‏إن ألقت هواها تضاعفت قُواها ‏وأعطت فعلها كل ذرةِ!

 

وهذا أيضا يثبت – مرة أخرى – نظرية الرازي في تقسيمه الثلاثي لمراتب اللذة، والذي قال فيه إن الانتقال من مستوى إلى مستوى آخر لا ينتظر سوى الحصول على تجربة المستوى الآول وهكذا. وأعتقد أن هذا الذي أودى “بإنسان السوق” اليوم ( أبناء السوق الحرة)؛ حيث الاستهلاك المفرط بغرض الوصول إلى أقصى مراتب السعادة بتعريفهم، والتي ترتبط جذرياً بالمتعة. المتعة التي لا يمكن الوصول إليها إلى بالاستهلاكِ المُفرطِ والتجرد من أي قواعد وأطر عامة تكبحُ جماحَ النفس البشرية!

وهذا التحدي في كفح جماح النفس ثقيل ليس يسير كما لاحظ ذلك امر ابن كلثوم :

وَلَكِن فِطامُ النَفسِ أَثقَلُ مَحمَلاً

مِنَ الصَخرَةِ الصَمّاءِ حينَ تَرومُها”
 

الخلاصة:

 

 ثُر على نفسك! ليس بأن توغل في “الفردانية” بحيث لا تضعُ حدودا لحدودك إلا من متعة إلى أخرى ومن لذة إلى لذة.. ولكنْ، إن كنت حقاً مُعجباً بنفسك إلى الحدِّ الذي يجعلك تعتقد أن لديك ماتقدمه فتعال للنزال، وليكن نزالك كبحَها! لا إطلاق العنان لها.

وفي حداثة جُندب الرأسمالية الاستهلاكية، يشيع عكس هذا. ولا غرابة إن سمعتَ كلمات من قبيل” نعم، ثق في نفسك! افعل ما تشاء، افعل ما تسوله لك نفسك، أنتَ لكَ وحسب،”!!! إلى آخره.. وهي كلها جُمل ومفردات لا يمكن فصلها عن دلالة الهوى الذي أشرنا إليه أعلاه!

 

ثم اعلم بعد كل هذا ـ وكما يقول المثل الحساني : الَ حدُّ حدْ راصُ يعكّبْ يغلبُ”.! 

© Copyright 2014, All Rights Reserved