حديث السحر (3)
.. ولكن ليطمئن قلبي ( تراويح – الليلة الثالثة).”اللهُ ليس كذلك”.
(لعلها الترجمة الدارجة لكتاب المستشرقة الألمانية: “زيغريد هونكه”Sigrid Hunke ( 1913 – 1999 )والذي يُعنون ب Allah ist ganz anders ووجدت له ترجمات بطرق مختلفة. ولكن النسخة التي قرأت قديما مترجمة بهذا العنوان :” اللهُ ليسَ كذلك”.
الشكّ هو أصل اليقين، لا يقين بلا شك. ولو أنّنا أفقنا على أسلافِنا الناطقين باللهجة الحسانية يقولون “اليقين لا ينقلب شكًا!”.
هذه الآية تشير إلى تلك الحقيقة، نجد نفس الشيء تكرر في قصة ابراهيم. حين بحث عن ربّ، كان قد تصوره كما يتصوره بعض ” أولاد السوق الحرة” اليوم اللهَ، بحيث يربط بينه وبين الضخامة والقوة، ومايراهُ ويتخله في عالمه الذي يعيش فيه من تراتبية…
فبدأ بالقمر( فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين)، لينتقل من القمر إلى الشمس، “.. هذا ربي هذا أكبر”. فلما أفلتْ أدرك حقيقة أخرى للبحث عن ربه كانتْ غائبة ً عنه وما كان ليدركها لو لمْ يشك في اختياراته الأولى ( القمر، الشمس).
وهي الحقيقة المتعلقة بالتصور، وهي أن الخالق لايمكن تصوره داخل إطارك الزمني والمكاني، وكل تصور داخل ذلك الإطار هو تصور قاصرٌ ماديَ لا يخلو من سذاجة عقلية!. في كل الحالات سيكون عنوان المستشرقة الألمانية دقيقا حينها :” اللهُ ليس كذلك.” ولو أنه ليس كتاباً فلسفيا ولا لاهوتيا وإنما هو كتاب بسيط يتناول موضوع الصور النمطية في الغرب اتجاه العرب لا أكثر. ولكنَّ عنوانه مهم بالنسبة لي، وأستعير العنوان هنا فقط!
لكنْ دعك من كل ذلك، واصبر معي لتناول الموضوع بطريقة أخرى.
في التاريخ البشري، والمكتوب بالعربية تحديداً ظهر باحثٌ عن الحقيقة في القرن الـ11 اتخذ الشكَّ مذهبا له في مرحلة من المراحل. لم يكن ذلك الباحث سوى الغزالي (1058-1111). ( الشخص الذي لم يفهمه السيد: ” نيل تيسون/ Neil Tyso“ للأسف، لأنه لم يفهم كلام الغزالي كما في “التفاهتْ”، والترجمة التي اعتمد عليها يبدو أنها أودته إلى حيث أودتْ به. وأستطيع أن أجادل في ذلك حتى الشهر القادم!).
على أية حال، كان الغزالي يتخذ الشك سبيلا لليقين، ولو أن الفكرة سُجّلت في تاريخ “الجندبية الغربية” كفكرة لرينيه لديكارت(1596- 1650) لاحقا! على الرغم من قدم المذهب وليس الغزالي وحده من استخدم أو عبر عن تلك الفكرة…
يجادل الغزالي أنه ولكيْ تصل إلى حقيقة قاطعة أنتَ بحاجة إلى التشكيك. التشكيك هو السبيل الوحيد للوصول إلى اليقين لذلك كان يقول: “إن الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلالة”. فالعلم الذي لا يرتبط باليقينِ لا أمان معه، ومادام لا يتحصل الأمان معه فبطبيعة الحال لا يقينَ معه. “كل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني “!
ولكيْ لا أطيل في رحلة الغزالي، سأختصرها في جُمل قصيرة. بدأت الرحلة في التشكيك في المصادر الرئيسية للمعرفة. بدءً من الحسّيات إلى الضروريات. ليتوصل أنه لا ضابط لليقين التامِ في الحسّيات. كانت تلك هي خلاصته الأولى. ولم يبق أمام بحثه سوى الثقة في الضروريات العقلية. ولكنه مع ذلك يجادل أن الحسيات أيضا تدعي أنه لايمكن الثقة في الضروريات العقلية. وهو يفعل ذلك بأسلوب تخيليّ لا يخلو من جمال.
على أنه بعد تجربته الطويلة هذه، يعيد الثقة في الضروريات العقلية، مع الاعتماد على عامل ثالث هو ما أسماه ” نور القلب” الذي يُمنح بعد بذل الجُهدِ في البحث عن اليقين/ الحقيقة.
وسواء كنت مؤمنا بـ “حوادث لا أول لها”، أو فكرة “واجد الوجود” أو الإيمان المطلق بالتسليم، فإنك وبلا شكٍ ستكون كسولاً إن لمْ تبذل مافي وسعك من جهود عقلية للوصول إلى ما تراهُ يقينا. أعني ذلك “اليقينَ الذي لا ينقلبُ إلى شكَّ”.!
ثم إني أعتذر إن كنتُ قد أطلتُ في هذا المنشور في أمور جافةٍ غيرَ رطبة. وإن كان ولابد من الأدب فهاكَ ما أشار إليه العزيز محمد عبد الباري في أحد نصوصه::
“لم ينمْ شكّي ولا سفسطتي // أعطني غار حراء كيْ يناما”.
وهي تعطيك فكرةً أن الشكَّ هو الأصل، وهو متجذر في نفوس العقلاء والباحثين. ولكنّه هو أحد السُّبِلِ إلى الوصول إلى الحقيقة حتى لا أقول إنه السبيل الوحيد للوصول إليها.!!
الخلاصة :
الإيمان المطلق لا يعني عدم البحث. ولكن اليقين أيضا لا يمكن أن ينقلب إلى شكّ كما يقولون. هذا إن كان يقيناً مبنيا عن متماسكاتٍ يقينية.
في كل الحالات مسألة البحث ضرورية لأي باحث عن الحقيقة. والقرآن يحث بالفعل على ذلك في أكثر من مكان. ولكن وكما للشك أدوات فللوصول إلى اليقين المطلق أدواته. وهناك لايمكنك أن تُنكر طريقا معينّا للوصول إلى تلك النقطة في آخر النفق. سواء كان ذلك غير ما عبر عنه الغزالي “نور يقذفه الله في القلب”. أو ما عبر عنه ابن سينا أو حتى “المحظوظ” ديكارت! .
النتيجة هي المهمة وليس الوسيلة في هذه الحالة.