لا تُرني الوجه الساطع الجميل فيك ، أرجوك أَرِنِي أقبح ما فيك. أريد أن أعرف إن كنتُ قادرا على التعايش مع أقبحِ مافيك لا مع أجمل مافيك!!. في الحقيقة – وكما أخبرتُك عني– فأنا أبحث عن الثابت لا عن المُتحوّل فيك.
ثم إنّ إدراكنا لحقيقة الثابت والمتحول في النفس البشرية وأصلها، لهو جدير بأن يحل ويفسّر ألغازَ تصرّفاتها اللاحقة، والتي قد تزعجناأحيانا !!
أتذَكّرُ أنّي حضرت ُ يوما مجلسًا جمع المعرّي والجواهري والتحق بِنا جبران خليل جبران لاحقا، وكنت رغم صغر قدْري أسترِقُ السمعَلمؤانستهم وأنا أُعِدّ لهم الشايَ على جَمرٍ جمّعتُ حطبه من بُحيرة فولسْ ( Falls Lake). ولقد لاحظتُ أن القادم الأخير من غربِ الغربِيُسرفُ بحماسٍ في وصفِ ذلك الإدراك الذي تحدثتُ عنه في أعلى المنشورِ وهو يقول :
“الخيْرُ في الناس مصنوعٌ اذا جُبروا
والشر في الناس لا يفنى وإن قُبروا
وأفضُل النّاسِ قطعانٌ يسيرُ بها
صوتُ الرُّعاةِ ومن لمْ يمشِ يندَثِرُ “!!
وكنتُ قد هممتُ بوضعِ الإبريق الثاني على المجمرة ،وأنا متحمّسٌ لهذا الجمال المبثوث من حولي.. لولا أنّي لم استسغ آخر كلمة في الشطرالأخير من أبيات جبران خليل جبران؛ حيث وجدتُ أن الفعل المضارع هنا يتقدّمه مانعُ الرفع ِ وماكان جبرانُ بحاجة إلى مثل هذه العواصة،ولكنّي ما كدتُ أفكرّ في هذا العبثِ اللغوي السخيف وفي معنى الأبيات الجميلة – التي تتقاطع مع فكرتي الرئيسية– حتى سمعتُ عمّناالجواهري وهو يُنشدُ على منوالِ جبران:
“هم الناس لا يَفضُلونَ الوحوشَ/
بغير التحلّلِ للمقصد
فلا تتديّنْ بغيرِ الرّياءِ/
وغيرَ النفاقِ فلا تعبدِ“.
ثم سادَ صمتٌ يسيرٌ ما لبثَ أن طال، وكان أكثر الثلاثة صمتا وإنصاتا هو صديقي المقرّب المعرّي؛ وكنت متحمّسا لسماعه من البداية، حتىخِلتُ أنّي سمعتُ الجواهريّ يلطبُ منه ذلك بلكنة عراقية جميلة ” ماكو شيء “؟ قبل أن يُنطق :
“إِذا حانَ يَومي فَلأُوَسَّد بِمَوضِعٍ
مِنَ الأَرضِ لَم يَحفُر بِهِ أَحَدٌ قَبرا
هُمُ الناسُ إِن جازاهُمُ اللَهُ بِالَّذي
تَوَخَّوهُ لَم يَرحَم جَهولاً وَلا حَبرا
فَيا لَيتَني لا أَشهَدُ الحَشرَ فيهِمُ
إِذا بُعِثوا شُعثاً رُؤوسُهُمُ غُبرا!!!”.
ولقد أخذتُ يومها على المعرّي طلبه الثقيلَ هذا! حيث تمنّى أن يُدفنَ في مكان لا قَبرَ فيهِ لغيره، وأن يُحشَرَ وحده دون أن يرى تلك الرؤوسالشعثاء من القيّمِ، والوجوهَ البالية المتلوّنة التي جمعته بها حياته السابقة؛ والتي –في نظره– لم تُفلِح كل “شامبوهات” العصر في التغيير منشعَثَها الروحيّ الأبدي!