صادفني هذا “المقطع”، و”مقاطع” أخرى مشابهة من الأستاذ د.عارف حجازي، ولكنّي ماوجدتُ فيه أدق من بيت ابن معطي (1168-1231)، وهو عالم جزائري ألف ألفيةً في النحو قبل ألفية ابن مالك، وقد ذكره م.ابن مالك في قصة طريفة على سبيل الأسطورة، وذلك حين نظم في مقدمته-وكدأب أي باحث جاد يذكر من سبقه لمثل هذا العمل ويحاول إظهار ما يمتاز به بحثه عن غيره. فقال:
“… فائقة ألفيةَ ابن معطِ
فائقةً منها بألفِ بيتِ………” ثم صمتَ صمتا طويلا ونام..!
وأورد شراحُ الألفية- على سبيل الطرفة- أن ابن معطي قد زار ابن مالك في منامه فقال له شطرا هو تكملة للبيت السابق:
“فائقةً منها بألفِ بيتِ // والحيُّ يغلبُ ألفَ ميْتِ.”! ولعلّ أثر هذا الشطر أثر في مقدمة الألفية إلى اليوم! يدرك ذلك من درس ألفية ابن مالك.
في هذا الفيديو يخطِّي الأستاذ الحيْ الفنان الراحل محمد عبد الوهاب (1898 – 1991) حين قال إنه أخطأ في جمع كلمة “حقب” وكلمات أخرى…
وقد يكون له في ذلك شيء من الصواب.. ولكن ما أسهل تخطئة الموتى وغلبَهم والتغلب عليهم كما قال ابن معطٍ.
أما وهذا أسلوب يبدو أن بعضهم وجد العربية من خلاله فنقول للدكتور العارف أو النحوي أستاذَنا الكريم… ومن خلاله نقول لكل الأخوة المحبين للعربية إن أسلوبكم هذا لا يفيد في شيء ، وإنما يحول “لغتكم العالية” إلى لغة متعالية لا مكان لها في الواقع ولا توجد إلا في مخيلاتكم! كما أنها لم توجد أصلاً في التاريخ اللغوي للعربية بتلك الدرجة المُتخيلة لديكم ( وهذا مبحث آخر ليس هذا محله)
أما بالنسبة لمحمد عبد الوهاب فكان يإمكانه أن يجيب كما أجاب الفرزدق :
” ولست بنحويٍّ يلوك لسانَه // ولكن سليقيٌّ أقُول فَأُعربُ ”
ومع ذلك يمكن القول إن الصحيح والشائع أن حقب تُجمع على حِقب. بالكسر وغيرها، أما حُقْب فهي مفردة وتعني السنة أو الفترة الطويلة أو حتى أكثر من ثمانين سنة. ولعل الشعر العربي يدعم ذلك وكذلك القرآن الكريم..
ثم إن حقبة تجمع على أكثر مما سمعنا من الأستاذ. فهي في الحقيقة تُجمع على “حِقبْ” و”حِقباتْ” وحتى حُقوب”..! كما في بعض المعاجم!
ظهر هذا المنشور أولا على صفحة انستغرام :
وكان للأستاذ “الحيْ” أيضا أن يقرأ بيت القصيدة الذي غناه الفنان “الميتْ” بطريقة أخرى. فمثلا تمكن قراءته كالآتي:
ومشوا فوقَ رأس الحُقُب” ويكون المعنى هنا هو “الدهر” وهذا مقبول في كلتا الحالتين..
تماما كما في الآية : … أو أمضيَ حُقبا !
ثم إن خطأه الثاني أيضا يمكن تأوليه. وكذا خطأه الأخير. ” وأَبى كِسرَى على إيوانهِ // أين في الناس أبٌ مثلُ ابي”
“على إيوانه” فما المشكلة؟ لايزال البيتُ يؤدي المعنى الرفيع المرجو منه وهو الرفعة والقوة والسلطة. بل إنني أفضل على إيوانِه” على ” على إيوانُه”…!
ولا يفوت على الأستاذ استخدام التربع على العرش والسرير كناية عن الرفعة والعز… مع أن إيوان كسرى معروف وهو كما وصفه الأستاذ..، ولكن لا أجد مشكلة كبرى في القول ..فلانُ متربعٌ على قصره الكبير … فهي لازالت تؤدي نفس المعاني التي تظهرها القصيدة.
كما لا يفوت على الدكتور أن الأصل هو السماع والقياس معمول للنحاة لليك ألسنتهم فيه! وكانوا قديما ينفرون من الشاعر والكاتب المتكلف في اللغة وغريبها! ولو أني كنتُ آمل أن أكون في هذا مدافعا عن غير محمد عبد الوهاب، إذا لا يروق لي اللسان النحوي المصري على أية حال..( هذا مزاح قديم مع أصدقائي المصريين لا عبرة به هنا…)، ولكن الوقت ألزم بهذا ولو أني لازلتُ أومن بالمثل القائل: أوهى من حجة نحوي!
مع ذلك أنا معترفٌ ومقدرٌ لجهود أولئك الذين يريدون الحفاظ على مستوى من اللغة، ولو أني صرت انزعج انزعاجا من مّنْ حنّطوا العربية وجعلوا الأجيال الجديدة تتعامل معها كما لو كانت نصوصا سماوية لا مكان لإتقانها وهذا هراء كله ومحض توطيد لصورة كولونيالية استشراقية سيئة !
مع ذلك نثق في أن الدكتور وما يقوم به في برنامجه هو بحسن نية.. ولكن صادفني هذا المقطع القصير وقبله مقاطع أخرى تبالغ في تحنيط اللغة وتظهرها كما لو كانت لغةً لا مجال لغير الناطق بها أن يتحدث بها..! بل إنها تضع الناطق نفسه في حرج كبير وتحد وخوف!!
ويعلم الدكتور أن التبسيط والتماس الأعذار النحوية أولى وأسهل من نقيضه..كما أن الكتابات التارخية ذات الحس التبسيطي صمدت أكثر من غيرها. ولك في الأدب والكتابات الأندلسية المثل الفصيح.
يمكن الاطلاع على رسالة ” التوابع والزوابع” لابن شهيد القُرطبي(992-1035) لإدراك ما أقصده وأشير إليه من بساطة وعذوبة في اللغة رغم أن الكتاب قديم جدا وموضوعه أعمق من مجرد نصوص أدبية، بل إنه نواة لنمط أدبي رفيع نشره ابن شهيد قبل المعرّي وقبل أن يتعلم “دانتي” كيف يسرق أعمال الآخرين وينسبها إليه في “كوميدياته الإلهية”!!
وإذا كان الإمام سفيان الثوري يقول : “إنما الفقه الرخصة من ثقة.. أما التشديد فيحسنه كل أحد”، فإننا نقول إنما “اللغة العالية” في التبسيط والتيسير، أما لوْكُ/ليك الألسنة فيحسنه كل أحد!!
وعموما وكما كان قال سادتنا من قبل :
“فـمُصلِحُ الشكلِ لدى حكاية //غيرَ حديث المصطفى والآية
قد فاتَهُ………………..”.”…إلى آخر النظم.
ثم إني لا أريد أن يفهم من هذا التعليق أن من يعلقون بمثل تعليقي هذا مردهم في ذلك قصورهم اللغوي، أو جهلهم بالعربية أو بالشعر أو بقواعد النحو أو “باللغة العالية” عموما…
على عكس ذلك هم ما وصلوا إلى هذه القناعة إلى بعد إلمام بتلك العلوم والاطلاع على “بعضها” من منبعها السخي من طرّةٍ “واحمرار ٍ” وقراءة وأداء وكتابة وضبطٍ ورسم. ولكنهم رأوا الخطر الداهم الذي يهدد العربية وعزوف الأجيال الجديدة عنها، فاهتموا بالأهم قبل المهم.!
وإذا كانت قواعد النحو غير جازمة، وهي تبعٌ للسماع ويطرأ عليها التغير، فلماذا لا يهتم علماء بحجم الأستاذ بأمور أخرى تجلب الناس للعربية وترغبهم فيها بدل تضييع الوقت والجهد في ليْكِ/لوك الألسنة وتنفير الناس من اللغة الأم وإن بحُسنِ نية!!!
إنما مثل هؤلاء والعربية إلا كذاك الطالب الذي قابلته مرةً في إحدى محاظر الصحراء وكان كبيرا في السن وتبدو عليه الجدية والمبالغة… ولا أتذكر أني وجدته مبتسماً قط! ثم إني سألت عن أحواله فعملتُ أنه حفظ القرآن وهو في عمر الشباب وكانت ثقافة بيئته التي قدم منها تعتمد التركيز على اختراع شواهد كثيرة بغية إتقان الحفظ… مثل عدد المرات التي وردت فيها إنَّ وتلك التي وردت فيها إنْ فقط ! وتلك التي ترد فيها “جناتٍ مِنْ تحتها…” وتلك التي تأتي “جنات تحتَها ” دون “منْ”. ولهم في هذا كتب ومراجع تعادل ضعف القرآن عشرات المرات!!! ولكن الطريف أن العبوس هذا لم يعد يحفظ من القرآن شيئا يذكر للأسف! لقد نسيه بسبب طول انقطاعه عنه وبقي محتفظا ً بتلك الشواهد فقط! فحين تسأله عن أي متشابه أو عدد كلمة وردت في القرآن فسيعطيك شاهدا على ذلك.. لكنه لا يكاد يستطيع قراءة سورة من حفظه !!! وأتذكر أني كنت مستغربا من كل هذا العبث !
العربية كما قال أحد أصدقائنا ذات مرةً، “لا تحتاج سوى إلى من يتحدث بها فقط”!! ليستْ بحاجة إلى كل هذا التعقيد والتنفير وليْكِ الألسنة..
ثم إني كنت سألتمس العذر للأستاذ لغته “العالية” إنْ ظلت كما هي فعلا ؛ فخطَّـأَ الأموات بلغة بسيطة مفهومة للجميع، لكنّها تقول لهم -ولو بحسن نية – إياكم والحديث بالعربية! وهو إذ يفعل ذلك لم يفعله بلغة امرئ القيس ولا بلغة الفرزدق، ولا حتى سلك طريق محمد ولد سيدي محمد (1827 – 1856) وسيدي محمد بن الشيخ سيديَّ (1832–1862) في مناظرتهما الشهيرة الماتعة حين استنكر الأول على الثاني جمعه حَرْفاً على حَرفٍ فبلغه ذلك فكتب قصيده المشهورة والتي منها:
“…يا منكراً جمعنا حَرْفاً على حِرَفٍ// لتَتَّئِدْ، لا تكن للمرتمي هدفا!
إنكار من ليس يدرى اشْدد به غَرَرا // إذ هو من جُرُف الألحان فوق شفا
لو خضت لُجةَ قاموس وجدت به//درًّا جلا جلو مصباح الدجى السُّدفا
حرف الكدى -لا سواه – جمعه حِرَفٌ//أوزانه عِنَبٌ والجمع قد عُــرِفَا
وكان رد محمد في نفس المستوى نورد منه:
“…………….. وَاسْمَعْ مقالي فليْسَ الأمر ما وُصِفا
إذ قد حكى البيتَ راويهِ على “حِرَفٍ” //
فقلت مستفهما لا منكراً حِرَفا ؟!!
وهل سمعتم بحَرْفٍ جمعهُ حِرَفٌ؟؟
قد كان ذاعنْ قياسِ الجمع منحرفا!!
ومن يخض لجة القاموس ليس له /
فُلكٌ تقيه من الألحانِ قد تلفا!!”
إلخ آخر القصائد.
كما لم يسلك العالم الأستاذ صاحب اللغة “العالية” طريق محمد محمود الشنقيطي(1829 – 1904م) حين جادل – عبثاً أو تمكنا من ناصية اللغة- أن “عُمَر” مُعربة غير ممنوعة من الصرف! ولم يجد في ذلك تحديا كبيرا ليثبت لمشايخ الأزهر ممن أنكروا عليه ذلك.
مقدماً أكثر من 100 بيت من الشعر العربي ما قبل وبعد الإسلام تثبت وجهة نظره. ومخطَّئا بذلك آلافا من النحاة بما فيهم سيبويهُ /سيبويهٌ نفسُه..!
(بالمناسبة وقبل أن تتم تخطئتي أيضا وأنا حيْ:
“في سيبويهٍ قالَ سيبويهِ// قد ينْبني فقَلّدَنْهُ فيه
وأنكر الجرميّ ذا عليهُ /// وقال: لا، بلْ أنتَ سيبويهُ”)!
عودة إلى الشنقيطي وأدلته فقد أورد من الشعر استخدامه :
لا تلسمنَّ أبا عمران حجتهُ // ولا تكوننْ له عوْناً على عُمَرِ!
أو ما رواه من أن الخليل كان قد أنشد :
” يا أيها الزاري على عُمَرٍ // قد قلت فيه غير ما تعلم!!”!
ولمْ يقل على “عمَرَ” وإن فعل فقد كسر وزن البيت!
وإذا كان الخليل ابن أحمد نفسه يقول إنه اعتمد في تقعيده على السجية، فلماذا تُلزمنا “اللغة العالية” وأستاذنا الفاضل بما لم تُلزمنا به اللغة العربية ؟! لقد أوردت هذه الأمثلة والسجالات المختصرة، لأقول إن النحو العربي واسع جداَ، ولكنَّ أخلاق(صدور) بعض النحاة تضيقُ عن ذلك أحيانا..!
الخلاصة:
إياك أن تفهم هذا المنشور على أنه انتقاص من الدكتور، أو تقليلٌ من دوره في العربية، أو تشكيك في كفائته ومعرفته بها….وإنما هو تعليق غير قصير جدا آثرتُ مشاركته ملاحظةً على مقطع شاهدته صدفة. وكما تعلم أننا حين نعلق على منشور كهذا فهذا لأنه يستحق التعليق.
ثم إنّي – وأنا أعترف بذلك – صرتُ أنزعج من التحالف غير المعلن وغير الموقّع عليه بين حرّاس اللغة العربية وبعضُ محبيها، وبين شرذمة الكولونالية اللغوية الحديثة، وذلك أن كلا منهما ينفر الناس من العربية بطريقته. فحراسُّ اللغة “العالية” جعلوها تبدو كما لو كانت لغة صعبة، لا مكان لأحد في إتقانها أو التحدث بها، أما الآخرون فلهم أساليبهم التي لا تخفى على مهتم، أو حتى طالب لغة مبتدئ!
كما أنني لازلت أومن بمقولة :”أوهى من حجّة نحوي”! وحين أشارك ذلك معك ، أُعيذك أن تفهم من ذلك أنه لا حظَّ لنا في النحو العربي !
ولعلك تسأل فأجيب كما قال كيسنجر(1923-2023) ذات مرة حين سألته حسناء في إحدى الحفلات :” أتُجيدُ الرقص” وكان ردّه ” إنَّني مسؤول ومشغول جدّا لأقومَ برقصٍ علَنِيٍّ.. ولكنَّي لا أريد منك أن تظنّي أنَّني لا أجيد الرقص! لذا لمَ لا نفترض أنني راقصٌ سرّي “!
والسلام!