” وقد تخرجُ الحاجاتُ يا أم مالك ٍ كرائمَ من ربٍّ بهنَّ ضَنينِ“!
تعليقي على خبر بيع أهل غــــــ ـ ـ ـز ة لمكتباتهم مقابل وقود الخبز !!
بيع كتب
قدْ لا يتفهم كثير من الناس، وخاصة من ”أبناء السوق“ الحرة ممن جبلوا على عبادة المادّة المحضة، واتخذوا الدولار ربّا ومرجعاً قيّميا لهم في الحياة؛ لا يتفهم هؤلاء ولنْ يتفهموا ارتباط الإنسان العادي ( غير الجندبي)- بالكتاب !!! وبالمكتبة الشخصية خاصة! ولهذا أصل في الثقافة والتاريخ العربيين… سأحاول أن أمر عليه سريعا في السطور التالية:
يروي التاريخ العربي قصصا تحرق القلب عن مدى ارتباط بعض الناس بكتبهم، والألم الذي يشعرون به عادة حين تجبرهم الظروف إلى بيع تلك الكتب!!
أقرب قصة ترد الخاطر هي قصة الفالي المشهورة مع كتاب “الجمهرة” . والتي ضمّنها بيت الأعرابي المشهور الذي عنونا به هذا المنشور، والذي صار مضرب مثل حتى يومنا هذا:
” وقد تخرجُ الحاجاتُ يا أم مالك ٍ
كرائمَ من ربٍّ بهنَّ ضَنينِ“!
يروي ابن خلكان (1211-1282) القصة بالقول إنّ الظروف القاسية اضطرت علي ابن أحمد الفالي إلى بيع نسخته النادرة من مخطوط كتاب 📖”الجمهرة” (جمهرة اللغة) بحوالي 60دينارا لتصل في النهاية إلى كفّ مشترٍ نبيل هو الشريف المرتضى(956-1044)، الذي وأثناء تصفحه -وجد هذه الأبيات التي يصف فيها الفالي شعوره اتجاه بيع نسخته النادرة من كتاب 📖 “الجمهرة “. تقول الأبيات:
”أنِسْتُ بها عشرينَ حولاً وبعِتُها
لقد طالَ وَجْدِي بعدَها وحَنيني!
وما كان ظَنِّي أنني سأبيِعُها
ولو خَلَّدَتْني في السجونِ دُيوني!
ولِكنْ لِضَعْفٍ، وافتِقَارٍ، وصِبْيَةٍ،
صِغَارٍ عليهم تَسْتَهِلُ شُؤُوني
فقلت ولم أملك سوابق عبرة 🥹
مقالة مكوي الفؤاد حزينِ:
وقد تُخرِجُ الحاجَاتُ يا أُمَّ مالكٍ
كرائِمَ من رَبَّ بِهنَّ ضَنِنِ”
فلما قرأ الشريف الأبيات رد الكتاب إلى صاحبه مع الـ60 دينارا! والبيت الذي ضمنّه الفالي محل الشاهد هو بيت الأعرابي “وقد تُخرِجُ الحاجَاتُ يا أُمَّ مالك كرائِمَ من رَبَّ بِهنَّ ضَنينِ” … وقصته مشهورة لاداعي لتكرارها. والمعنى أن الظروف القاسية قد تجبر الإنسان على التخلي عن أمور عزيزة على نفسه، وله بها ارتباط وجدانيّ خاص!. كـالكتب في هذه الحالة مثلا!.
أمّا كتاب الجمهرة – لمن لا يعرفه- فهو من تأليف ابن دريد المعروف (837-933)، وهو عبارة عن موسوعة لغوية فريدة، اتبع فيها ابن دريد طريقته الخاصة غير التقليدية في استخدامه المنهج ”الألفبائي“في ترتيب الألفاظ.. وضمنها كثيرا من اللهجات العربية المختلفة، والاستشهادات النادرة.. وقد صار مرجعا لكثير من المعاجم التي جاءت بعده!
وفي تراثنا الموريتاني (الشنقيطي)، تُروى قصص أخرى مشابهة عن رسائل عزاء لمن ضاعت عليهم نسخا نادرة من كتاب كان قد قوي ارتباطهم به، أو اضطرّتهم الحاجة إلى بيعه!!
وربما هذا الذي يفسّر ثقافة كرههم لإعارة أو بيع الكتب والمخطوطات عموما…! ولقد طلبت مرّة -وأنا مراهق طائش – إعارة مخطوطٍ من أحد مشايخنا العارفين ( رحمه الله تعالى) فبعث لي المخطوط ومعه ورقة 📄 كتب عليها الأبيات المشهورة :
”ألا يا مُستعير الكُتْبِ مِنّي
فإن إعارتي للكُتبِ عارُ
فمحبوبي في الدنيا
كتابي وهل أبصرتَ محبوباً يعارُ “؟!
و روى عن الشاعر والأديب اللغوي المتمنطق المشهور: عبدالله ابن أحمد الخشّاب (1098-1172 ) أنه كان لايفرّقُ بين الكتاب و”النفس/الذات” !! ونفسه هي معشوقه الذي يضنّ به على أن يعطيه أو يعيره لأحد يقول :
ٌنفسيَ معشوقي ولي غيرة
تمنعني من بذل معشوقي”!.
وفي غــ ــ ـ زة اليوم يضطر الناس إلى بيع كتبهم أي ذواتهم للحصول على مايسد الرمق!!! وهذه رمزية بها مابها لمن يدرك الثقافة العربية ويعرف رمزية المكتبة والكتاب عند الإنسان العربي !!
الخلاصة :
تبعث غزة لنا في كل يوم رسالة، وبأكثر من طريقة، لفعل أي شيء قد يوقف تلك الإباد-ة الجماعية! فهل مِنْ مُجيب؟
هذا هو تعليقي السريع على خبر بيع أهل غزة لكتبهم مقابل وقود للخبز. ليس هذا مقالا ولا يعتبر منشورا مدروسا بقدر ماهي خاطرة عابرة آثرت مشاركتها هنا لتعم الفائدة، وأيضا لتسجيل بعض المحفوظات التي تخاف الضياع.
ظهر هذا المنشور أولا على صفحة اسنتغرام في شكل تدوينة سريعة كباقي المنشورات الأخرى