في شارع فرانكلين ستريت وعلى مقربة من النصب التذكاري لجندي الكونفدرالية المعروف باسم “سايلنت سام” وسط الحي الجامعي لجامعة ولاية كارولاينا الشمالية في تشابل هيل.
كنت أمر كل يوم على مجموعة من المتجمهرين أمام التمثال، وعلى غير العادة كنت أشاهد من حين لآخر مجموعات من الشرطة ومصوّرين وحواجز تغلق الممر العابر جانب التمثال..
كنت أحيانا أضطر إلى أن أسلك طريقا آخر للوصول إلى أحد الفصول الدراسية الذي كنتُ أدرّسُ فيها حينها…
على الجانب الثاني بالضبط من الشارع وفِي أحد المباني المطلة على الشارع الرئيسي “فرانكلينْ ستريتْ” كان مكتبي في الطابق الثاني من المبنى، كان ذلك يتيح لي فرصة مشاهدة ما يحدث على الجانب الآخر من الشارع، حيث تمثال “سايلنت سام”.
كنت أشاهد تجمهرا غير طبيعي ، وأعدادا وحركة غير معهودة، ولكن لم يكنْ لدي من الفضول ما يكفي لأذهب واسأل عن ما يحدث. كنتُ في كل مرة أرى تلك الوقفات آخذُ بعض الصور ثم انصرف إلى حيث أريد.
كانت إحدى اللافتات وبخطٍ غامق وعريض،ترفع شعارا قرأت منه كلمة “نازية” ! قلت في نفسي مالي وللنازية ولكل هذا الهراء! درويش يدرّسُ ويدْرُس ويسخر مما حوله ماله وللنازية؟!
♬” شويخْ من أرض مكناس♬
♬ وسط الأحياء إغنِّي♬
♬ واش علي من الناس♬
♬ واش اعل الناس مني!”♬
ثم ما علاقة النازية بهذه المدينة الوادعة في الجنوب الأمريكي ؟! كانت اللافتة – وبعد تمعن- تظهر شعارا يقول: “الشرطة نازية”!!
لاحقا، سأعرف أنها كانت تمثل ردة فعل على اعتقال طالبة كانت قد لطخت التمثال بالدم قبل أيام!
ثم لماذا تلطخ فتاة غاضبة مملوءة بالحيوية تمثالا في ساحة جامعية جميلة كهذه؟
في الحالتين كان الفضول يملؤني ولكنّ انشغالي بإكراهات الواقع لم يكن ليسمح لي بكثير من الحرية لأشبع ذلك الفضول. كنت أشعر مع ذلك بنوع من الاستعباد فالرأسمالية الحديثة حولت الموظف الى عبد لرب المال – إذ لا وقت لديه لتتبع ما لا يدخل في صلب عمله بالضرورة – سواء كان ذلك الرّب فردا أو مؤسسة! ففي الرأسمالية يتعدد الأرباب أيضا!
كان الواقع يرغمني أن أنشغل بسؤال الوقت أكثر من انشغالي بسؤال التاريخ والذاكرة. وربما جعلني أعدل عن اهتمامي بهموم ذاكرتي وتاريخي إلى بطني وسريري…
ورغم ذلك، كان هذا الشعور يملئ حياتي ويثقل كاهلي وربما قدمت إلى الحصة وأنا أفكر في التاريخ أكثر مما أفكر في الحاضر؛ أفكر كيف أقضي ديون عمر ابن سعيد، وكونتا كينتي، قبل أن أهتم بقضاء فواتير شركة الكهرباء “دوك إنرجي”!
أفكر كيف للولايات المتحدة أنْ تتجاوز عصرا من الدماء والعبودية، وكيف لها أن تعيش في الألفية الثانية وهي لم تتخلص بعدُ من رواسب الألفية الأولى!!
هذا التاريخ الذي يثقل كاهلي هو منْ جمع كل هؤلاء الطلاب المتظاهرين أمام هذا التمثال الصامت، وهم يحاولون الآن تحطيمه بأي ثمن! ولماذا يودون تحطيمه؟
يجادل الطلاب أن هذا التمثال هو رمز لفكرة التفوق العرقي (الأبيض) والعبودية، وأنه وفي يوم إزاحة الستار عنه عام 1913 ألقي بمناسبته خطابٌ عُنصري فوقويُّ… وأن الطلاب الآن لايمكنهم قبول تمثال بهذه الرمزية في أروقة الحرم الجامعي الخاص بهم!
هذا الشد والجذب بين الطلاب ومعارضيهم كلّف الجامعة أكثر من 390,000$ لحماية التمثال خلال السنة الأكاديمية 2017-2018!!
على الضفة الأخرى، هناك أطروحة أخرى ووجهة نظر لا ترى أن في تحطيم تمثال ٍ يرمز لمرحلة تاريخية من تاريخ الولاية والدولة أية علاقة بواقع العنصرية والتمييز!
في نفس الفترة تقريبا، كانتْ حُمى التماثيل تجتاح أمريكا، ففي مدينة نيويورك كان التمثال البرونزي لــماريون سيمز قد تم نقله من مكانه مقابل أكاديمية الطب إلى مقبرة نائية، ولم يكن ذلك ليتم لولا المطالبات والمظاهرات المتكررة بذلك. ومن هو ماريون سيمز(1813 -1883)؟ إنه عالم الطب الأمريكي الشهير، عبقريُّ طب الأمراض النسائية الحديثة. ولكنه ومع ذلك كان يقوم بإجراء عمليات جراحية للتجربة على السيدات الأمريكيات من أصل افريقي بغية تحقيق نتائج ملموسة لأبحاثه. نفس التجارب هي التي ساهمت في إنجاح مشاريعه التي ستصبح فيما بعد مهمة وتثبت عبقريته “اللاأخلاقية”. لاتزال بعض اختراعاته تستخدم في الطب حتى اليوم!.
لكن ما علاقة هذا الدرويش المُدرّس بالصراع بين تاريخ أمريكا وواقعها؟
في الأيام الاخيرة للفصل قررت أن أغير جو الحصة فجلبت قهوة وبعض الحلويات العربية! ثم أوحيتُ للطلاب أن يشعروا بالحرية ويتحدثوا كما شاءوا! فهذا آخر يوم لهم في الفصل، وبإمكاننا اليوم أن نتحدث عن اهتماماتنا خارج موضوع الصف.
تقرب منّي طالب أوروبي( ألماني تحديدا) من أصول أفريقية، وبدأ يسألني عن الروايات التي أنصحه بها، أو تلك التي قرأتها وأعجبتني…
أشرتُ إليه باسم رواية “الجذور”، هل قرأتها من قبل؟ إنها جميلة وقد ترجمت إلى لغات كثيرة..!
قال الطالب: ” لم أقرأها ولكني شاهدتُ المسلسل التلفزيوني”.!
أوه ! حسنا، ماذا أعجبك فيه؟
مشهد إجبار البطل على نطق اسم غير اسمه الرسمي!.
عدت الى البيت وفور انتهاء الفصل أعدت مشاهدة نفس المشهد. كان مشاهد تعذيب البطل “كونتي” حزينة ومعبرة في آن معاً، لقد طلب السيد منه أن يلفظ اسمه الجديد “توبي” بينما رفض هو إلا أن يقول إن اسمه كونتي!
تخيلت كونتي وهو بيننا الْيَوْم ، تخيلت فوكس نيوز وهي تقدم هذا المتخلف الذي يتحمل عناء الضرب والصفع مقابل نطق اسم جميل( توبي) بدل اسم غريب لا معنى له !
تخيلت القنوات العربية وهي تبرر بالدِّين كيف أنَّ الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وأن كل الأسماء جميلة. ولا مقصد من الاسم سوى تسهيل النداء. ثم ماذا عساه يفعل مع موقف ” إلا مَنْ أُكرهَ وقلبه مطمئنٌ بالإيمان”.؟!
مشكلة كونتا لم تكنْ بعيدة من مشكلتي، فحين كنت اتصلُ بشركات التأمين والمعاملات اليومية كنت أجدُ صعوبة في إثبات هويتي عبر إملاء الاسم. حيث إنه يتكون من 8 كلمات دون اسم الأب المتكون وحده من كلمتين.
وكنت أشعر بضيق وحسرة لدرجة أنّي فكرت في تغييره لاسم الشهرة وهو لقب من اسمين فقط !
لكن فكرة الخيانة بدأت تراودني حين قرأتُ وصف الرئيس اترامب “للدول الافريقية بالحثالة”.!
شعرت حينها أنّي سأخون ذكريات مآت السنين، ودماء عمر ابن سعيد، وكونتا كينتي وغيرهما..! ( بالمناسبة لي قصة شخصية مع عمر ابن سعيد(المستعبد حيّا وميّتا)، آمل أن نتشاركها معاً في وقت لاحق).
قد لا تبدوا محاولة الإصرار على الاسم محاولة ذات قيمة ؛ فلم يكن ليضر بلال لو قال ربي اللات ؛ كان النبي سيقبل إيمانه وكان المسلمون ليتفهموا ظروفه وماكان القرآن إلا ليزكي إيمانه، ولكنه موقف لأمثالي وأمثال كينتي ممن قدموا في جيلين مختلفين وخضعوا لعبوديتين مختلفين !
نعم حين أكون في القطار، أو في الفصل ، أو في المكتبة ، أو في الطائرة، أو حتى في نادي البؤساء المجاور للبيت، فأنا لستُ “مو” لستُ “سادْ” أنا: الشيخ محمد أحمد عبد الرحمن ولد شيخنا الشيخ عبد اللطيف توري. ولِتذهيب حداثة أسماء “جندب” إلى الجحيم !
الخلاصة:
هذه الأرض لك تعد لصِغاري ؛ // هذه أرض جونْ، مايكلْ وماري!
كتبت هذه المسودة أولا بتاريخ فبراير 2018