حديث السحر (14) عنْـهُمْ : إذا عُرف السبب بطل العجب !
[لا ينبغي لنا أن نشرح ما ليس بذوق لنا] – ابن عربي
مؤخرا تداول بعض المتصفحين مقطعاً قصيرا لجماعة تنتمي لأحد فرق الصوفية في شمال وغرب إفريقيا. كان أغلب المعلقين – حسب التحليل الذي عملت- ساخرا من المقطع ويرى فيه نوعا من العبث و”الرقص”.!!
والحقيقة أنني أحاول الإشارة إلى شيء آخر غير ذلك الذي في المقطع.. وما أعنيه وأحاول كتابته قد تضيق عنه صفحة بسيطة على انستغرام. وربما أفردُ له مقالاً خاصاً أو شيئا كهذا.
الحقيقة أننا كبشر ننظر بدونية للأشياء التي لانفهمها، أو بالأحرى نعجز عن فهمها. ليس بالضرورة لمشكل في تلك الأشياء والأفكار ولكنْ في قصورنا نحن ربما. أعني قصورنا عن خوض التجربة.
أما الآن فلدي رغبة في مشاركة بعض الأفكار المشتبكة ببعض الأبيات الشعرية التي جاءت من داخل عالم المتصوفة ذاتهم. والتي تشرح أحيانا بعض أحوالهم، وتبدي خوفها منا كثيرا أحياناً أخرى. أعني ( الخوف منّا نحنُ المجانين الذين لا يدركون مكنون السِّر وراء ما نُنكره).
ثُمّ إنّي لستُ متصوفاً، ولكنّي أحاول أحيانا فهم مكنون النفس المتصوفة. وحتى في الحالات التي تأخذني جذبة نحو الصوفية فإنّني لا أكون تجانيا على أية حال، ما يعني أن تعليقي هذا لا ينبغي أن يُفهم كموقف مقتنع بفكرة ما يدافع عنها من داخلها دون أن يحاول أن يكون موضوعيا وينظر إلى الصورة من الخارج.
في الحقيقة حاول الصوفية أنفسهم أن يتجنبونا (نحن المجانين)، ويعاملوننا معاملة الأستاذ لتلامذته الصغار، هو لا يشرح لهم إلا ماتدركه عقولهم وتصوراتهم، وفي الحالات التي يقوم بها طفل بطرح سؤالي وجودي أو فوق مستواه العُمري والذهني فإن الأستاذ يجيبه إجابة عامة لا تجيب بالضرورة على ذلك السؤال بطريقة منطقية أو علمية. وإنما هي فقط إجابة لمستوى أطفال في صف ابتدائي.
هذا المثل الذي أضربه هنا وإن كان يبدو سخيفا وسطحيا إلا أنني أعتقد أنه ما يمكننا – فعليا- من خلاله فهم بعض أحوال الصوفية. وأكثر من ذلك فهم بعض تعليقاتهم التي نسمع منهم، والتي تجيب أحيانا على بعض الأسئلة، وإن بدت في ظاهرها أجوبة بسيطة غير مشتبكة بالمعنى الذي نسعى إليه.
لكن، ورغم ذلك نجد في بحر محيط الصوفية أجوبة أخرى أكثر عمقاً لمن أرادها. إنها أجوبة لا تمنح نفسها سوى لغواصٍ ماهرٍ، أتقن الغوص، واعتاد البحر، وليس مجردُ هاوٍ يلتقطُ صور ” سيلفي” على ضفاف البحر!
نموذج من تلك الإجابات ما عبَّر عنه كثير من الصوفية في فترات متعددة ومن طرق مختلفة من الحلاج، إلى السهروردي، إلى أبو مدين التلمساني، إلى عبد القادر الجيلاني، إلى إبراهيم انياس وغيرهم… وإليك بعض الأسماء التي يمكننا تتبع تلك الإجابات في أعمالها.
يقول ابن عربي (1165-1240):
“فمن فهم الإشارة فليصنها وإلا سوف يقتل بالسنان”
يعني أن من ذاق ذلك الطعم الروحي فاليحاول أن يخفيهِ وإلا فيسعرض نفسه للقتل.! بما في ذلك القتل المعنوي الذي نشاهده اليوم في عالمنا” الحداثي” البدائي هذا. ولنا في التاريخ المعاصر أمثلة على ذلك في السودان وفي دول أخرى..
وغير بعيد عن هذا ما عبر عنه السهروردي(1154-1191) حين قال:
وارحمة للعاشقين تكلفوا / ستر المحبة والهوى فضاح
بالسّرِّ إن باحوا تُباحُ رقابهم // وكذا رقابُ العاشقين تُباحُ”.!
ومثل ذلك جواب الحلاج (858 – 922) حين قال:
سَقَوني وَقالوا لا تُغَنَّ وَلو سَقَوا جِبالَ حُنَينٍ ما سقوني لَغَنَّتِ
تَمَنَّت سُلَيمى أَن أَموتَ بِحُبَّه وَأَسهَلُ شَيءٍ عِندَنا ما تَمَنَّتِ”
وكذلك قول أحدهم: ” يلومونني جهلاً وأيقنتُ أنّ منْ / تجرعَ من معشار ما ذقتُه صبا..”!
وهنا يعيد نفس الإجابة، وهي أن من ذاق من تلك الكأس سيرقص ويغني لا محالة.
وكان أبو مدين التلمساني (1126-1198) أكثر الجماعة وضوحا وجواباً حين تصور أسئلتنا اليوم لماذا ترقصون؟ وكان جوابه في سخرية، ووصف لحالنا نحن “جاهلو المعنى الصوفي” حين قال في قصيدة طويلة أقتبس منها :
“فقُل للذي ينهى عن الوجد أهله // إذا لم تذق معنى شراب الهوى دعنا!!
إذا اهتزت الأرواح شوقاً إلى اللقا// نعم ترقص الأشباح يا جاهـل المعنى
أما تنظر الطير المقفّص يا فـتى// إذا ذَكَرَ الأوطان حنّ إلى المعنى
فيُفرج بالـتـغـريـد ما بفوائده// فتضطرب الأعضاء في الحس والمعنى
كذلك أرواح المحبين يا فتى// تهزهِزها الأشواق للـعـالـم الأسـنـى
أنلزمها بالصـبـر وهـي مـشـوقـة؟؟ وهل يستطيع الصبر من شاهد المعنى؟؟!!
وكما قد رأيت فقد حاول التلمساني، أن يفسر لك السبب بمنطق بسيط وهو: إن كنتَ لمْ تذق من نفس الكأس، ولا تعرف الطعم وحالة الانتشاء التي يصلها من ذاق منه، فلا داعي للإنكار!. وقد ضرب التلمساني مثالا على الطير المسجون في القفص، فحين يحنُ إلى دياره وحريته، ولا يجد إلى ذلك مخرجاً فيضطر للتغريد تخفيفاً عن نفسه. تماما مثل حال الصوفية، حين يحنون إلى “العالم الأسنى” ولا يجدون سبيلا إلى ذلك لتعلّق الروح بالجسد، فيضطرون إلى ما ترى!!
“إذا لـم تذق ما ذاقت النّاس في الهــوى// فبالله – يا خالي الحشا- لا تعنّفنا!
وسلّم لنا في ما ادّعينا لإنّنا// إذا غلبـت أشواقنا ربـّما صحنا”.
ومن العجيب أن معنى صفد الروح هذا أو تعلقها بالجسد ( الحالة الأدنى) ولجوئها “للتغريد” هروبا من هذا الواقع، قد عبّر عنه المعرّي وإن في سياقِ آخر حين قال: ” …وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيثِ”.
أبو مدين، أيضا لا يكتفي بهذا وحسب، وإنا يطلب منك سيدي “المجنون” البسيط الدرويش، أن تعذره حين لا تستطيعُ أن تفهمه. ببساطة لأن في لحظات السُّكُر الروحية تلك قد يظهر ما لا تستطيعُ فهمه ببساطة لأنك خارج إطاره ولم تجربه:
“…………وإن أنكرتْ عيناك شيءا فسامحنا
فإنّاإذا طبنا وطابت عقولنا / وخـامـرنـا خـمـر الـغـرام تهـتـّكـنـا
فلاتلم السّكران في حال سُكره /فـقد رُفع التّكليف في سُكرنا عـنّا“.
وأتذكر قصيدة جميلة للمبدعِ أبدا محمد عبد الباري تتناول نفس السؤال عنْونها بــ”هُمْ” يقول فيها:
“…يقول لنا الراوي :الغناء مفخخ!!
يحذرنا الراوي: الدراويشُ أسرفوا
بسيطٌ هو الراوي وكالبحر رمزهم
لهم لغة/ محو وصمتٌ مكّثفُ”.
نعم، حقا بسيطٌ هو الراوي، وبسيطٌ أنت أيضا حين تحاول أن تحكم على تجربة لا تستطيع استيعابها، فقد لأنك لم تخضها أو خضتها ولم تستوعب!!
الخلاصة:
التجربة الصوفية تجربة فريدة ومعقدة جدا، وليست بتلك البساطة التي يمكننا الحكم عليها من خلال إنعكاس تأثيراتها على بعض المريدين. ومع ذلك، لم ينكر الصوفية القدامى تعرضهم للتنمر تماما مثل ما يتعرضون له اليوم على وسائل التواصل الاجتماعي، ولكنهم أيضا جاوبوا بطريقتهم. وإن لمْ نفهم أجوبتهم أو نضعها في مكانها الصحيح، فليس هذا لأنها أجوبة غير مقنعة، ولكن، – ربما- لأننا نحن لم ندرك حقيقة تلك الأجوبة وسياقاتها.
ثم بالمنطق “التلمساني” البسيط: إذا كنت غير قادر على استيعاب التجربة، دعنا عنك يأخي!!. ما مشكلتك؟ أو بمنطق ابن الفارض : اترك عنك انتقادي، وخض التجربة بنفسك، ثم بعد ذلك انتقد متى ما شئت، ولكن ليسَ قبل أن تخوض التجربة بنفسك وتدرك وترى ما يراهُ “هم” ذاتهم. :
“دَعْ عنكَ تَعنيفي وذُقْ طعم الهَوَى/ فإذا عشِقْتَ فبعدَ ذلكَ عَنّف“
والآن ها قد عرفتَ سبب رقص هؤلاء فهل لا يزال لديك عجبٌ؟