حديث السحر (10) مقايضة الخالق: ادعُ لنا ربك بما عهد عندك!
“ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفتَ عنا الرجز لنؤمنَنّ لك”. – الأعراف.
تحيل هذه الآية إلى فكرة مقايضة الخالق. إن فعلتَ يا “خالقُ كذا” فستجدُ منّي كذا. وهي مقايضة تنمُ عن عدم إدراك لكنهِ الخالق وجهلٍ به. ولعلّ هذه الفكرة تكررت كثيرا في القرآن وفي آيات أخرى:” ومن النّاس من يعبد الله على حرف، فإن أصابه خيرٌ اطمئن به وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه”
ولم يكن إيراد هذه القصة في القرآن بغرض المديح، وإنما كانت ذمّا، وبها من السخرية ما يكفي لذلك. وفي مجتمعنا الإسلامي تشيع هذه الفكرة كثيرا( أعني فكرة المقايضة/التجارة)، ويبدو أن الوعاظ، أو “أئمة فظمة” كما أسميهم، يوطدونها بمروياتهم السطحية التي لا تخلو من غباء، وما يُصورونه عن الله.. ولقد لاحظتُ نجاعتها أحيانا، خاصة في مجمعات “أولاد السوق”، حيث تتغَوَل المادة ويُتصور الخالق كما لو كان “مديرا كبيرا بميزات عظيمة”!. ومن السخرية أن بعضاً من مؤمني الصدفة يعمل جردا حسابيا بأعماله بغية الجزاء، وكأنه يتعامل مع مديره المباشر في شركة ناشئة على مشارف الإفلاس!
فعند العودة إلى التراث الإسلامي، نجد أن هذا النموذج من العبادة قد كُتب عنه. بل نجد بعضهم يسمّيهِ بـ “عبادة العبيد”.! أي عبادة الطامِعِ أو الخائف من العقوبة الحِسّية وحسب!
وعلى الرغم من ذلك، نجد في التاريخ الفقهي ( القانوني المحض) من يعتبره “مُجزياً” ما يعني أنه مقبول كأداء للواجب، ولكنّه ليس هو الأمثل.
وهو ما يحيل إلى مصلحٍ فقهي في المذهب المالكي يضرب لمن يسرق أو يقوم بمحرّمٍ أثناء الصلاة مثلا، فيقولون “عصى وصحّتْ“!! يعني أنه عمل معصية ولكنّ صلاته صحيحة من حيث الشكل فقط.
أي أن من يعبدون الله بغية المزيد من العنَبِ والقصور، والنساء، وحتى الرّجال..، قد تكون عبادتهم صحيحة من حيث الشكل. لكنّها شكليةٌ وحسب! والله وحده العليم بالعاقبة.
على أية حال، كان بعض الفقهاء، وخاصة في تراث الشناقطة( الموريتانيون) يتعاملون مع هذا الصنف ويأخذونه بعين الاعتبار، حين يقدمون مراتب التقوى حسب الجزاء والعقوبة..
فيقسمونه إلى خمسة مراتب، وقد نظمها محمد العاقب ولد ميابي (القرن ال19) فقال:
حضرت مجلس إمام النصحا//ماء العيون بعد أن صلى الضحى
يحدث الناس بدين أحمد// وهو يقول جالسا في المسجد
إن التقى و هو أعز ما اكتسب//ذو همة يأتي على حمس رتب:
(1)تقىً يخلص من الخلود//وهو اتقاء الشرك بالمعبود
(2)وما يخلص من الجحيم//وهو اتقاء الزلل العظيم
(3)وما ينجي من عذاب المسلم//في قبره هو اتقاء اللمم
(4)وما ينجي من مكاره الدنا//هو اتقاء الشبهات والخناء
(5)وما به تستجلب الأفراح//هو اتقاء بعض ما يباح
فملتُ مُصغِياً لما حكاهُ //فصافحتْ يُدَيّتي يداهُ
فعاده عليَ حتى استكملا //حديثه، كما رواهُ أوّلا
على الضفة الأخرى، كان مريدوا مقام “الإحسان” يسخرون من كل هذا، وإليك رابعة العدوية ( القرن الـ8) حين تقول :
“اللهم إنْ كنتَ تعلم أني أحبك طمعاً في جنتك فاحرمني منها، وإنْ كنتَ تعلم أنِّي أعبدك خوفاً من نارك فاحرقني بها”، وهي ذاتها صاحبة الأبيات المشهورة والتي نحفظها جميعا:
كُلُّهم يَعْبدُونَ مِنْ خَوْفِ نَارٍ ويروْنَ النجاةَ حَظَّاً جَزِيلاً
أَوْ بِأَنْ يَسْكُنُوا الجِنانَ فيحظَوْا بقُصُورٍ ويَشْربُوا سَلْسبِيلا
لَيْسَ لي بالجنَانِ والنّارِ حَظٌّ أنَا لا أبتغي بحِبي بَديلاَ
ومثل هذا ما ينسب للإمام علي :”إلهي ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك , لكن وجدتك اهلا للعبادة فعبدت“
الخلاصة:
شرط النهايات هو تصحيح البدايات كما يقولون . وأعتقد أن الوقت دائما يكون مناسباً للعودة إلى تأسيس البداية الصحيحة بالنسبة للباحث عن الله. وتلك البداية هي معرفة الله حقّا. وحينها لنْ يكون هناك معنىً لأي نوعٍ من المقايضة والتجارة معه، وقد تعبده لأنه حقّا يستحق العبادة.
وعلى أي حال، أنا أشير إلى مرتبة مختلفة من العبادة وكما يِقال: حسناتُ الأبرارِ سيئات المقربين. أو بالعبارة المفضلة عندي دائما والتي نشرتها أكثر من مرة على هذه الصفحة، كما قال ابن عطاء الله السكندري (القرن الـ13): “من عبده لشيء يرجوهُ منه، أو ليدفعَ بطاعته ورودَ العقوبة فما قام بحقّ أوصافه”.
تلك هي خاطرة الليلة العاشرة. وذاك هو تعليقي على تلك الآية.