28Mar

حديث السحر 5 هل سمعتَ مقولة “أخفى من كسب الأشعري”؟! ما ذا تعرف عنه؟

حديث السّحَر (5)  ” واتقوا يوما ترجعون فيه الى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا ي.”

هل سمعتَ مقولة “أخفى من كسب الأشعري”؟! ما ذا تعرف عنه؟

في تقاليدنا الحسانية ( في بعض المناطق فقط) عندما تحاول شرح مسألة غير واضحة، أو معقدة بالأحرى فإنك تقول :” أحْ ذاك ماهُ واضحْ حتَّ” “أو ذاكْ الَّا كَسب الأشعري”. ومعنى العبارة : أن ما تقوله ليس جلِيّا، أو معقداً غير واضحٍ، تماما مثل  نظرية “الكسب” عندَ الإمام الأشعري!

عموما إن كنت – حقا – مهتما بالبحث في الإلهيات وعلم الكلام فلا بدَّ أنك سمعتَ بهذه المقولة والتي صارت مضرب مثلٍ شعبيا في بعض الثقافات الإسلامية والعربية وهي مقولة “أخفى من كسب الأشعري”. يضرب المثل – كما أشرتُ –  للأمور الغامضة وغير الواضحة عموما ، أو لتلك الغامضة وغير الجلية للعامة ( غير المتخصصين)، ولكنّها قد تكون واضحة للمتخصص أو المؤمن بها..

وسبب هذه المقولة يعود إلى الصراع المتعلق بتكييف أعمال الناس. وعلى افتراض أن هناك خالقا ( سواء ثبت ذلك عن طريق العقل المحض، أو توصلتَ إليه بوسائلك الخاصة..). فلا بد أن يكون هذا الخالق ذو قدرة مطلقة. تلك القدرة المطلقة لا يمكن، بل ولابُدّ أن تشمل قدرته على خلق أفعال العباد، أو منحهم القدرة الكاملة على خلقها. بعبارة مبسطة إما أن يكون الإنسان مسؤولا عن تصرفاته، حرا في اختياراته، أو مجبرا على تلك الأفعال والاختيارات، وحينها سيثير ذلك تساؤلا ً آخرَ متعلقا بعدالة الخالق(المُفترَض)، إذ كيف يمكن أن يُحاسَب الإنسان على أفعاله طالما هو مجبرٌ عليها؟ وإذا لمْ يكنْ مجبرا ًعليها ( يعني من اختياره) فكيف يختارُ إذن ما لا يريده الخالق ( الاختيار عكس إرادة الخالق)؟

هناك عدة مذاهب/ مدارس يمكن أن نختصرها كالآتي:

– الجبر المطلق ( يعني الإنسان مجبور على أفعاله، ليس حرا في اختياراته، وكل ما يقوم به ليس بإرادته الحرة..)

– الاختيار المطلق (الإنسان حرٌ في إرادته، في اختياراته المطلقة، مسؤولٌ عن أفعاله مسؤولية مطلقة دون تدخل خارجي)

– ونظرية الكسب (هي موضوع الليلة)

( طبعا سأشير فقط إلى الرأي الشائع في كل هذه المدارس دون الدخول في تفصيلاتها وخلافاتها الداخلية حرصا على الاختصار، كما لنْ أقدم كل الأدلة لكل مدرسة وإنما سردا سريعا لألحق بنقطتي الريسيئة هنا)

بخصوص من يمثل المذهب الأول/ المدرسة الأولى، فموضوعهم سهل. فهم يعتقدون بأن الإنسان مجبور على أفعاله، لا مساحة له للاختيار. تماما مثله مثل أي جماد في الطبيعة تمكنه الحركة حسب قواعد الطبيعة من حوله، لكنه في الواقعِ غيرُ مُختار لتصرفاته… وحتى إن نسبنا إليه الأفعال التي يقوم بها فهي في الحقيقة من باب المجاز. فيمكنك القول سقطَ هاتفي، وجاءت سيارتي، واخضّرتْ حديقتي..إلخ. وتنسب تلك الأفعال للسيارة ، والهاتف، والجديقة، ولكنها في الواقع أفعال منسوبة مجازا بينما الحقيقة أن الفاعل الفعلي هو تلك القدرة التي هي فوق الإنسان، والتي يتصرف وِفقها. في هذه الحالة (هي قدرة الله المطلقة، والأفعال هي جريانُ تلك القدرة على يد الإنسان لا أكثر).!

أما المدرسة الثانية، فهي مدرسة المعتزلة وهي ترى ( رغم اختلافاتها الكثيرة ) أن أفعال العباد هي من تصرفاتهم ( الاختيار المطلق)، وأن الخالق( الله) منحهم القدرة على القيام بها، ولكن لا فاعل لها في الحقيقة إلا هم. . وبطبيعة الحال هناك درجات كثيرة في تفسير هذا عند المعزلة ذاتهم ولكن يمكننا الاستشهاد بكلام القاضي عبد الجبار(935 -1025)  حين يقول “اتفق كل أهل العدل على أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم، وأن الله عز وجل أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها، ولا محدث سواهم..” فالإنسان إذن هو الفاعل لفعله خيرا كان أو شراَّ وليسَ مجبرا على ذلك. ولكن الخالق منحه القدرة على الفعل ذاته.

طبعاً تحاول  المعتزلة في هذا ترتيب الجزاء( العدل) بحيث أن الإنسان حينها سيكون مسؤولا عن أفعاله الجيدة والسيئة، إذ ليس من العدل محاسبة الإنسان على فعل هو مجبر عليه. لذلك كان موقف الاختيار المطلق موقفا متماشيا مع نقطة العدل المطلق. (هذا موضوع آخر)

بين الموقفين الأولين (موقف الجبر المطلق، والاختيار المطلق)، ظهر موقف ثالث، بمثابة إمالة “بينَ بينَ”  وهو موقف الأشاعرة ومن حالفهم ( إن صح التعبير)، وهو موضوع المنشور . وتجلى هذا الموقف في نظرية تُدعى الكسب. أي أن الله خالق لفعل الإنسان، ولكنه منحه حرية اكتسابه، بمعنى الله خلق الإنسان، وخلق أفعاله(الخيرَ والشرَّ منها) ولكنه منحه الحرية على اكتسابها، فإن اكتسبَ الشرَّ حوسبَ عليهِ، وإنْ اكتسبَ الخيرَ جوزِيَ عليه…

بعبارة أخرى ، الفاعل الفعلي هو الله، لكن الإنسان مكتسبٌ لذلك الفعل، لذلك هو مسؤول عن “اكتسابه” فقط. وحينها سيكون لدينا فاعلانِ لنفس الفعل هما : الله، والإنسان!. أمممم هل هذا منطقي ؟ أو واضح؟ ربما، وربما لا، ولهذا كانوا يسخرون من “كسب الأشعري” لغموضه وكونه يلعب على طرف دقيق جدا بين المدرستين الرئيسيتين المتعلقتينِ بالاختيار المطلق والجبر المطلق. فهو

يحاجج أصحاب نظرية الكسب بأدلة عقلية ( منطقية) وأخرى نصيّية. ولعل من أهم الآيات التي يعتمدون عليها بالإضافة إلى الآية التي ذكرت في المقدمة هي هذه الآيات : .. أن تبسل نفسٌ بما كسبتْ لا ظلم اليوم، كل نفس بما كسبت رهينة ، لايؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، من كسب سيئة فلا يجزى إلا مثلها …إلخ

وهم إذ يقدمون هذه النظرية لا يتفقون فيما بينهم على مفهومهم للكسبِ ذاته. فنجد اختلافات مفاهيمية بين الجويني والباقلانّي(من أهم منظري المدرسة الأشعرية) في فهمهم للكسب ذاته. ما يعني أن هناك فعلا مصداقا لمقولة ” أخفى من كسبِ الأشعري”,!

 

الخلاصة:

بطبيعة الحال، قدمت كل مدرسة أدلتها المنطقية والنصية، ولكني اختصرتُ اختصارا كبيرا جدا( ربما أخلّ )، ولكن لا مشكلة، فليس هدفي إعادة مثل هذه المواضيع المكتوب عنها بغزارة، والمكررة كثيرا، وإنما محاولة ربط ما ورد بخاطري حين قراءتي تلك الآية، بالمثل الشعبي، وعلاقة ذلك بواقع فعل الإنسان لا أكثر. خاصة “نظرية الكسب” عند الأشاعرة.

على اية حال، تلك  هي نظرية الكسب. وأيضا هذا هو “حديث السّحر لليوم الخامس من رمضان”.

اليومَ تُجزى كلُّ نفسٍ بما كسَبَتْ لا ظُلمَ اليوم!

مرحبا !!

Get the latest articles, insights, and updates straight to your inbox.

Share this Story

© Copyright 2014-2024, All Rights Reserved